مضى زمن طويل ، منذ ذالك الوقت الذي قررت فيه أن تكتب مذكراتها ، وتترك للقلم أن يرسمها بالحبر كيفما شاء ، قبل ذلك كانت تحاول دائماً أن تترك أصابعها معلقة في الأشياء التي تمر في حياتها ، كانت تحب كثيراً أن تترك شيئاً منها على الأشخاص الذين يعبرون قريباً من ضفة قلبها ، كانت تُحب أن تعطي شيئا خاصا منها لكل من مرّ قريباً من حياتها التي مرت سريعاً ،
كسرعة , القطار الذي يخطف الطريق بين عجلاته من دون أن يفكر أن يتوقف ، مضى وقت طويل وهي تفكر كيف وصلت إلى سن الأربعين ؟ ، كيف سيكون شكل الأعوام العشر المقبلة التي تطل برأسها على حياتها بوداعه , كطفل كسر إناء الزهر ثم إبتسم ، لكنه الأربعين ، العمر الذي يبلغ المرء فيه أشده ، قوته ، عزمه ،قراره الأكيد ، نضجه ، وتمام إكتمال تقاسيم جسده ، فلماذا لاتزال تشعر أنها صغيرة ، صغيره بذلك القدر الذيتتردد كثيراً أن تعترف أمام مرآتها أنها وأخيراً وصلت سن الأربعين !.
ما أصعب أن تكبر وتجد نفسك أمام «ميزان» يرجح نقصان أيامك وأنت كما أنت !
مازالت تهز برأسها يميناً ويساراً ، تبتسم كما الذي يعيش حالة "خدر" غير مفهومة ، لتسأل : "هل أنا حقاً إمرأة الأربعين؟ ، هل حقاً مضى العمر سريعاً من دون أن يلتفت , لينظر لهذا القلب الصغير الذي مازال يحبو بداخل قفصي الصدر ولم يتعلم بعد؟ ، تبسط يديها عند مكان القلب ، تتحسسه كأن تتفقد رضيعها في سريره المهتز ،تتأكد أن كائنا حيا مازال ينبض بداخلها ، تسحب يدها تباغت المرآة بذات السؤال الحائر : هل كبرت؟ ، هل مضى العمر بي ؟ ، تستدير نحو كتابها المُلقى على حافة
سريرها , تتناوله كمن وقع على كنز ، تتأمل عنوانه : "40 في معنى أن أكبر" للكاتبة "ليلى الجهني"، تقلب صفحاته تتمتم : "إنني أكبر وليس بيدي أن لا أفعل ، كل ما بيدي وأنا أكبر هو أن أعي كيف ينحتني هذا الكبر ،ما الذي يأخذه مني؟ ، وما الذي يضفيه علي؟"، ثم تقرأ : "إنني أكبر ، وأغدو أكثر هشاشة من قبل ، يؤذيني أحياناً أن أشعر أنها هشاشة من يعي ويعرف أكثر مما يجب ، لا هشاشة من لا يجرؤ ، أليست الهشاشة عطباً في الروح ؟".
تقفل الكتاب , وتأخذه هاربه إلى صدرها ، تراقصه في غرفتها ، تستدير في كل زاوية وهي تغني : "أليست الهشاشة عطباً في الروح"، ترفع صوتها حتى ينسحب منها إلى صمت , ينتهي بها إلى مرآتها لتنظر بألم إلى وجهها ، عينيها التي كم عاشت طويلاً ، كم تألمت ، كم بكت ، كم عاشت ضياع الفرص ، كم سرقت منها أحلامها ، كم فارقت حبيبها ، كم تعطشت إلى فرح ، كم تطلعت إلى أمل ، كم خذلها المقربون ، كم طعنها الصديق ، كم تشمت بها أعدائها ، كم وكم حتى مضى العمر سريعاً يسرق معه الأحلام من دون أن يلتفت إليها .
{ أحلام ضائعة }.
مضى العمر سريعاً ، في طياته سنوات مازالت تشتاق إلى أحلامها الضائعة ، أو ربما المؤجلة أحياناً ، مضى وهو يتحسس جراح الذي قارب أن يفتقد جسده لفرط جوعه , لكل الأمنيات التي علقها في الأفق ، ترك الباب مواربا إلى الأمل ، لكنه تأخر كثيراً ، والعمر بلا رحمة يخطف منّا جميع الأشياء المغلفة التي كنا قد غلفناها لأوقات بلوغ الفرح ، إنتظرت مغلفاتنا كثيراً والحلم لم يتحقق بعد ، نتشبث بكل ما لدينا من قوة حتى نبقى أوفياء لحاله إسمها الأمل ، الذي وُلد مع الأماني
الصغيرة ، التي مع تقدم العمر تكبر، إنها تكبر وتشيخ , ومازلنا نحن كما نحن أيضاً ننتظر ، نعاود ترداد ذات الرؤية للأشياء التي نحبها ونمدها بإخلاص متسع حتى حدود الأرض ، لنبقى نؤمن أن هناك ما هو يستحق أن نعيش من أجله , حتى إن مضى العمر ولم يأت ، ولم يقترب منّا ، لم يلامسنا ، لم يهمس في أذننا ، بل ولم يقدم لنا زهور الحقل التي زرعناها لهكذا موقف .
{ أنت كما أنت } .
ما أصعب أن نتكبر ، وأن تجد نفسك أمام ميزان يرجح فيه نقصان أيامك وأنت كما أنت ، مازلت مهووساً بفكرة واحدة ، بقرار واحد لا تجرؤ أن تتخذه ، بقلب الحب الذي لا يأتي أبداً وفياً ، بمكانة أنت من تستحقها ، بأسرةتحتفي بك ، بحياة تفتخر بها ، بطفل يعيد تشكيلك من جديد ، بتغير تحتاجه عند نقطة الصفر ، بطموح تعتق كثيراً وأنت تخطط له ، لكنه أيضاً لم يأت .
حينما يمضي بنا العمر ، من دون أن نستطيع أن نتصالح معه ، فإن ذالك لا يعني أبداً مرارة الشيخوخة والخوف من الموت ، بل إن روحاً مازالت رطبة ، ندية ، تحتاج إلى من يسمع صوتها ، من يؤمن بها ، من يرقب النور الذي يسكنها ، حينما يكون لمعنى البقاء ذات معنى الغياب ، حينما يكون لمعنى الحُب ذات معنى الكُره ، حينما يكون للون الأبيض ذات معنى السواد ، حينما يكون لمعنى السعادة ذات معنى العتمة ، حينما تكتشف أنك تراهن خلال سنواتك الماضية على أوهام يقلصها لك العمر الذي ذهب من دون أن يسألك العذر ، من دون أن يقول لك وداعاً .
{ أيام تسرقنا } .
ونبقى "مهبولين" بأيام ضاعت فيها الأشياء المضيئة , التي خفت جداًّ ضياؤها ، لا نستطيع أبداً أن نعيد عربة الوقت إلى الخلف ، لن نستطيع كذلك أن نوقف العمر حتى ننتظر أحلامنا لتلحق بنا ، لتعاود التفكير بنا وبالزمن الذي منحنا إياه , لكي ترانا بعيون المحب ، تشفق علينا فتتحقق ، لكنها أبداً لن تفعل ، وأبداً لا يتوقف العمر في سرقة نبضنا ، نتألم ونحزن ونخاف من عمر لا يبقى فيه متسع , حتى للتفكير بما تبقى ، لكننا بشر مسيرين بأقدارنا ، مشبعين بمخاوف لا حصر لها , بثقل كبير من :
التجارب والخسارات ، التي أتعبتنا وأخذت منّا أكثر مما أخذه العمر الذي مضى ، والذي يصر أن يمضي .
حينما يمضي العمر بنا ، فإننا نكبر ، ويبقى هناك بين الحد الفاصل بين زمنين , حالة عميقة جداًّ اسمها "التوق"الذي يسكن في عروقنا ، يسير مع دمائنا ، ينعس في أجفاننا ، يزورنا عند كل ليلة نتوحد فيها مع ذواتنا , لنعيش قلق الفقد والخسارة ، التي ولّت مع تلك الفرص .
{ لم ننجح } .
يباغت فينا ذلك "التوق" كل شيء حتى ما نخفيه بداخل الروح حتى لا يموت ، لا ينتهي ، حتى إن إنتهى وقتها يظل بأعماقنا , يزيد من لمعان تحفنا الثمينة التي حفرت بداخلنا ، أخذ العمر ما أخذ ، فيما بقيت هي تنير طريق القلب الذي لم يشع إلا بها ، مازال كائن صغير ، يعشق ويحلم وينتظر ويغامر ويتوقف ، حتى تأتيه الفرصة ليحقق أحلامه التي لم تنته يوماً ، حتى وإن مضى العمر .
أن يمضي العمر بنا ، ولم تتحقق أحلامنا ، لم نصل ، لم ننجح ، بل ولم نستمر ، فإن ذالك لا يعني أننا كبرنا ،بل يعني أننا خاسرون في معركة لم تدر إلاّ من طرف واحد فقط , وليس طرفين ، طرف واحد محارباه , هما /"الأماني" و"القلب" .