الفصاحة والتشبيه والاستعارة قد أردت أن أعيد القول في شيء هو أصل الفساد ومعظم الآفة والذي صار حجازاً بين القوم وبين التامل.
وأخذ بهم عن طريق النظر وحال بينهم وبين أن يصغوا إلى ما يقال لهم وأن يفتحوا للذي تبين أعينهم وذلك قولهم: إن العقلاء قد اتفقوا على أنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين ثم يكون أحدهما فصيحاً والآخر غير فصيح.
وذلك قالوا يقتضي أن يكون للفظ نصيب في المزية لأنها لو كانت مقصورة على المعنى لكان محالاً أن يجعل لأحد اللفظين فضل على الآخر مع أن المعبر عنه واحد.
وهذا شيء تراهم يعجبون به ويكثرون ترداده مع أنهم يؤكدونه فيقولون: لولا أن الأمر كذلك لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشعر فضل على تفسير المفسر له لأنه إن كان اللفظ إنما يشرف من أجل معناه فإن لفظ المفسر يأتي على المعنى ويؤديه لا محالة.
إذ لو كان لا يؤديه لكان لا يكون تفسيراً له.
ثم يقولون: وإذا لزم ذلك في تفسير البيت من الشعر لزم مثله في الآية من القرآن.
وهم إذا انتهوا في الحجاج إلى هذا الموضع ظنوا أنهم قد أتوا بما لا يجوز أن يسمع عليهم معه كلام وأنه نقض ليس بعده إبرام.
وربما أخرجهم الإعجاب به إلى الضحك والتعجب ممن يرى أن إلى الكلام عليه سبيلاً وأن يستطيع أن يقيم على والجواب وبالله التوفيق أن يقال للمحتج بذلك: قولك: إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين يحتمل أمرين: أحدهما: أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة مثل: الليث والأسد ومثل: شحط وبعد وأشباه ذلك مما وضع اللفظان فيه لمعنى.
والثاني: أن تريد كلامين.
فإن أردت الأول خرجت من المسألة لأن كلامنا نحن في فصاحة تحدث من بعد التأليف دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة ومن غير أن يعتبر حالها مع غيرها.
وإن أردت الثاني ولا بد لك من أن تريده فإن هاهنا أصلاً من عرفه عرف سقوط هذا الاعتراض وهو أن يعلم أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحلي كالخاتم والشنف والسوار.
فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلاً ساذجاً لم يعمل صانعه فيه شيئاً أكثر من أن يأتي بما يقع عليه اسم الخاتم إن كان خاتماً والشنف إن كان شنفاً وأن يكون مصنوعاً بديعاً قد أغرب صانعه فيه.
كذلك سبيل المعاني أن ترة الواحد منها غفلاً ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كلهم.
ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني فيصنع فيه ما يصنع الحاذق حتى يغرب في الصنعة ويدق في العمل ويبدع في الصياغة.
وشواهد ذلك حاضرة لك كيف شئت وأمثلته نصب عينيك من أين نظرت تنظر إلى قول الناس: الطبع لا يتغير ولست تستطيع أن تخرج الإنسان عما جبل عليه فترى معنى غفلاً عامياً معروفاً في كل جيل وأمة ثم تنظر إليه في قول المتنبي من المتقارب: يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل فتجده قد خرج في أحسن صورة وتراه قد تحول جوهرة بعد أن كان خرزة وصار أعجب شي بم بعد أن لم يكن شيئاً.
وإذ قد عرفت ذلك فإن العقلاء إلى هذا قصدوا حين قالوا: إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين ثم يكون أحدهما فصيحاً والآخر غير فصيح كأنهم قالوا: إنه يصب أن تكون هاهنا عبارتان أصل المعنى فيهما واحد ثم يكون لإحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزيينه وإحداث خصوصية فيه تأثير لا يكون للأخرى.
واعلم أن المخالف لا يخلو من أن ينكر أن يكون للمعنى في إحدى العبارتين ومزية لا يكونان له في الأخرى وأن تحدث فيه على الجملة صورة لم تكن أو يعرف ذلك فإن أنكر لم يكلم لأنه يؤديه إلى أن لا يجعل للمعنى في قوله: تأبى الطباع على الناقل مزية على الذي يعقل من قولهم: الطبع لا يتغير ولا يستطيع أن يخرج الإنسان عما ل عليه وأن وليس لله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد مزية على أن يقال: غير بديع في قدرة الله تعالى أن يجمع فضائل الخلق كلهم في رجل واحد.
ومن أداه قول يقول إلى مثل هذا كان الكلام معه محالاً.
وكنت إذا كلفته أن يعرف كمن يكلف أن يميز بحور الشعر بعضها من بعض فيعرف المديد من الطويل: والبسيط من السريع من ليس له ذوق يقيم به الشعر من أصله وإن اعترف بأن ذلك يكون قلناه: أخبرنا عنك أتقول في قوله: وتأبى الطباع على الناقل إنه كاية في الفصاحة.
فإذا قال: نعم.
قيل له: أو كان كذلك عندك من أجل حروفه من أجل حسن ومزية حصلاً في المعنى.
فإن قال: من أجل حروفه دخل في الهذيان.
وإن قال: من أجل حسن ومزية حصلاً في المعنى قيل له: فذاك ما أردناك عليه حين قلنا إن اللفظ يكون فصيحاً من أجل مزية تقع في معناه لا من أجل جرسه وصداه.
واعلم أن ليس شيء أبين وأوضح وأحرى أن يكشف الشبهة عن متأمله في صحة ما من التشبيه فإنك تقول: زيد كالأسد أو شبيه بالأسد.
فتجد ذلك كله تشبيها غفلاً ساذجاً.
ثم تقول: كأن زيداً الأسد.
فيكون تشبيهاً أيضاً.
إلا أنك ترى بينه وبين الأول بوناً بعيداً لأنك ترى له صورة خاصة وتجدك قد فخمت المعنى وزدت فيه بأن أفدت أنه من الشجاعة وشدة البطش وأن قلبه قلب لا يخامره الذعر ولا يدخله الروع بحيث يتوهم الأسد بعينه.
ثم تقول: لئن لقيته ليلقينك منه الأسد فتجده قد أفاد هذه المبالغة ولكن في صورة أحسن وصفة أخص وذلك أنك تجعله في كأن يتوهم أنه الأسد وتجعله هاهنا يرى منه الأسد على القطع فيخرج الأمر على حد التوهم إلى حد اليقين.
ثم إن إلى قوله من الطويل: أأن أرعشت كفا أبيك وأصبحت يداك يدي ليث فإنك غاليه وجدته قد بدا لك في صورة آنق وأحسن.
ثم إن نظرت إلى قول أرطاة بن سهبة من البسيط: إن تلقني لا ترى غيري بناظرة تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد وجدته قد فضل الجميع ورأيته قد أخرج في صورة غير تلك الصور كلها.
واعلم أن من الباطل والمحال ما يعلم الإنسان بطلانه واستحالته بالرجوع إلى النفس حتى لا يشك.
ثم إنه إذا أراد بيان ما يجد في نفسه والدلالة عليه رأى المسلك إليه يغمض ويدق.
وهذه الشبهة أعني قولهم: إنه لو كان يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما قالوه من أن الفصاحة وصف للفظ من حيث هو لفط لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشعر فضل على تفسير المفسر إلى آخره من ذاك.
وقد علقت لذلك بالنفوس وقويت فيها حتى إنك لا تلقي إلى أحد من المتعلقين بأمر اللفظ كلمة مما نحن فيه إلا كان هذا أول كلامه وإلا عجب وقال: إن التفسير بيان للمفسر فلا يجوز أن يبقى من معنى المفسر شيء لا يؤديه التفسير ولا يأتي عليه لأن في تجويز ذلك القول بالمحال وهو أن لا يزال يبقى من معنى المفسر شيء لا يكون إلى العلم به سبيل.
وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الصحيح من أنه لا يجوز أن يكون للفظ المفسر فضل من حيث المعنى على لفظ التفسير.
وإذا لم يجز أن يكون الفضل من حيث المعنى لم يبق إلا أن يكون من حيث اللفظ نفسه.
فهذا جملة ما يمكنهم أن يقولوه في نصرة هذه الشبهة قد استقصيته لك.
وإذ قد عرفته فاسمع الجواب وإلى الله تعالى الرغبة في التوفيق للصواب: اعلم أن قولهم: إن التفسير يجب أن يكون كالمفسر دعوى لا تصح لهم إلا من بعد أن ينكروا الذي بيناه من أن من شأن المعاني أن تختلف بها الصور ويدفعوه أصلاً حتى يدعوا أنه لا فرق بين الكناية والتصريح.
وأن حال المعنى مع الاستعارة كحاله مع ترك الاستعارة.
وحتى يطلبوا ما أطبق عليه العقلاء من أن المجاز يكون أبداً أبلغ من الحقيقة فيزعموا أن قولنا: طويل النجاد وطويل القامة واحد وأن حال المعنى في بيت ابن هرمة من المنسرح: .